ذكراك، كالفلّ، بيضاء، نديّة

بقلم: أحمد عُلَبي

في 19 ت1 1988

   في عيد المعلّم قصدته، فالأستاذ يوسف علّمني وأنا في صفّ الشهادة المتوسّطة (البريفه). درّسني العربيّة في البعثة العلمانيّة الفرنسيّة (اللاييك)، الواقعة عهد ذاك في الناصرة على طريق الشام، بالإضافة إلى أنّه لقّنني الاستقامة التي كان يتحلّى بها والنزاهة والوطنيّة. ولم أكن عنده تلميذًا هادئًا، وماذا تطلب من فتى عاشق للحياة والطرافة، يبحث عن المفارقات، فإن فاتته استنبطها وحلّ ضاحكًا في شقوقها. ولم ألق من الأستاذ يوسف غير المودّة والسماح، على أنّني في آخر حِصصه كنت أقصد المنبر وأسعى لأن أحمل له دستة دفاترنا التي سوف يجول فيها بحبره الأحمر، وبخطّه العصبيّ، تصحيحًا وتقييمًا، وذلك لأوصلها إلى غرفة الأساتذة، ولأجبر ما قد يكون علق في خاطر أستاذي نحوي من استياء وشَجَن. وبلهجة هي عنوان الصدق والصراحة والعنفوان، وما زال وقعها يتردّد في خاطري، برغم كرور السنين الغابرة، كان الأستاذ يوسف يخاطبني، وهو يلملم أوراقه: عُلَبي ما تبرطلنيش! ثمّ يوجّه إليّ كلامًا نصوحًا، ولا أذكر أنّه آذاني بكلمة نابية أو قول جارح.

    فالأستاذ يوسف نويهض، ابن رأس المتن، آية الخُلُق الرضيّ، لا يحمل في طويّته ضِغنًا أو مَوْجِدة. إنّه إنسان صافٍ كالبلُّور، وإذا ما غضب فدفاعًا عن موقف إنسانيّ، أو رأي وطنيّ، أو لينبري تسفيهًا بمن يصول بالباطل، والنُّهْزَة سلاحه والوصول سهمه ومُنَاه. وتصرّمت الأيّام فإذا بنا زميلِان، ثم تقلّبت الأيّام فغدا الأستاذ يوسف على المعاش، ولكنّ جسر الصداقة توطّد في ما بيننا، وجمعنا حبّ غامر لوطن عزيز. وكنّا نلتقي آنًا بعد آن في الشارع، فصرنا نتزاور ونتطارح. والأستاذ يوسف تقدّم في العمر، ولكنّه ظلّ فتيًا كالرمح، مشرقًا كالصباح، يطأ الأرض مترئّفًا بها. ومع أنّ الزمن جار عليه، فاختطفت الحرب أحد أبنائه الشجعان شهيدًا، وطوى المرض العُضَال فِلْذةً أخرى، بيد أنّه استمرّ يغالب ويعارك بروح متشامخة على الجراح، مستسلمة لما كُتب في لوح الغيب.

   في عيد المعلّم قصدته لأحيّيه، وكنت أعتزم زيارته منذ زمن، فوجدت في المناسبة الفرصة اللائقة الجميلة. وصعدت سُلَّم بيته العتيق الرّحب، وهو سُلّم عالي الدّرَجات، مستقيمها، أُلبس بَلاطًا امّحت آثاره أو كادت، فبدا السُلّم عاريًا، حادّ الزوايا، ضيّق الفُسْحة. على أنّي صعدت درجات هذا السّلّم الأثريّ خفيفًا، وهبطت دَرَكاته من غير انتظار طويل، وذلك أنّي لم أجد أحدًا في بيت الأستاذ يوسف. فما ابتعدت قليلًا عن البناء حتّى شعرت بألم مفاجىء ينتابني في عضلة رجلي اليسرى. وقلت في نفسي: لله دَرّ أستاذنا، أمضى عمرًا وهو صاعد هابط على هذا السّلّم، وعانيت أنا منه لمرّة طارئة.

   وعاودت التعريج، إثر مضيّ أسبوعين، على بيت الأستاذ يوسف، لا حُبًّا بسُلّمه ولكن لألتقي به وأظفر بودّه. وقد استوقفني، هذه المرّة، أنّ الأضواء تشعّ من جوانب منزله كافَة، لكأنّ عُرسًا تدور أفراحه هناك بالطبقة الثانية من البناء المزخرف، القائم في محلّة الزيدانيّة، وذلك على مقربة من مدرسة الشيخ عبّاس الأزهريّ، طيّب الله ثراه عدد مَن تخرّج في معهده العتيد الدارس. ولكنّ مفاجأةً كانت تنتظرني عندما ولجت البيت، وهي أنّ الأستاذ يوسف يفد عليه الأهل والأصدقاء لعيادته، فهو في وضع صحّيّ متدهور، وعندما قصدته في المرّة الاولى ولم أجده فإنّما كان زائرًا لدى أحد أبنائه في السعوديّة حيث أجرى عمليّة دقيقة.

   واستأذنت في الدخول على الأستاذ يوسف، فمضت زوجه الودود إليه، ثمّ عادت إليّ ملهوفة لتقول لي: إنّه يسأل عنك. وعندما جلست على حافة سريره، في الغرفة شبه المظلمة، كان الأستاذ يوسف يتلوّى من الألم، ولكنّ ألمه لم ينسه السؤال، بنَفَس متقطّع، عن أحوالي، وعن ولديّ. وأخبرني أنّه ما أن استعاد وعيه، بعد العمليّة، حتّى طلب منهم أن يعيدوه إلى الوطن. ثمّ أوصاني خيرًا بأوراقه. وظلّ خلال أشهر يصارع المرض بصبر، إلى أن استسلم لرقدة العدم.

   مارس الأستاذ يوسف نويهض الكتابة، وهو يتحلّى بأسلوب عربيّ متين، ذي صِبْغة كلاسيكيّة، على أنّه لم يُتَح له أن ينشر كتبًا. ومن مخلّفاته المخطوطة "رحلة إلى فنزويلا"، وهناك أوراق حول جوانب من التاريخ اللبنانيّ، وقد نقل إلى العربيّة قسمًا جليلًا من كتاب الشاعر الفرنسيّ "لامرتين" "رحلة في بلاد الشرق". كما نقل إلى العربيّة أيضًا الكلمات المتّصلة بالجغرافيا في معجم "لارُوْس". ولا زلت ذاكرًا عندما حدّثني، ذات مرّة، في إحدى زَوْراته إلى منزلي، وكنّا نجلس بين أحضان مكتبي، عن ذكرياته عندما كان يحصّل العلم في باريس حيث نال الليسانس في الأدب من جامعتها. وممّا قاله لي في تلك الأمسية إنّه وضع خلال دراسته، إبّان سنة 1935، وبناء على طلب النحّات اللبنانيّ يوسف الحويّك، كتابًا حول الحجّ عنوانه "الكنز الثمين ودليل الحاج الأمين"، فنال مكافأة عليه ألفي فرنك. وقد زيّنه الحويّك برسومه، وأصدره الناشر الفرنسيّ المعروف "كاسمار ميشيل"، ووزّعه بآلاف النسخ في أفريقيا السوداء المسلمة، وكتب أنّه من تأليف لجنة من العلماء العرب.

   أستاذ يوسف نويهض وداعًا، لقد خَسِرَتِ الفضيلة بموتك، أحد أبنائها، وذِكراك، كالفُلّ، بيضاء نديّة.